جريدة بريطانية : هكذا عجز المجتمع الدولي عن وقف حرب السودان

هكذا عجز المجتمع الدولي عن وقف حرب السودان
إصرار الطرفين المتحاربين على الانتصار بأي ثمن أدى إلى تلاشي الجهود الدبلوماسية لمعالجة الأزمة

قبل اندلاع الحرب السودانية في 15 أبريل (نيسان) الماضي، كان السودان ماضياً إلى نهاية فترة انتقالية وبداية حكم مدني ديمقراطي يقود إلى استقرار سياسي واقتصادي يعوض السودانيين عن ثلاثة عقود قضوها تحت ظل النظام السابق، ثم تبعتها فوضى الفترة الانتقالية، لكن الحرب انفجرت لتشكل “صدمة” وحدثاً ضخماً لم يكن متوقع الحدوث.

فحتى اللحظة التي أعلنت فيها الحرب بين الجيش السوداني و”قوات الدعم السريع”، كان الطرفان مرتبطين معاً بمصلحة مشتركة تتعلق بتقاسم السلطة على رغم الخلافات الدفينة بين قائديهما، وقد تبدى لكل منهما أنه بحاجة إلى القوى المدنية لاكتساب شرعية شعبية، وعلى لسانيهما صيغت خطابات ورغبات بعض القوى الحزبية وفرضت شروط لاستمرارهما معاً، كان أبرزها الخلاف حول دمج “قوات الدعم السريع” في الجيش، الذي كان أحد بنود “الاتفاق الإطاري” الذي وقعه المكون العسكري في مجلس السيادة الحاكم في السودان و”قوى إعلان الحرية والتغيير – المجلس المركزي” ومجموعات متحالفة معها في الخامس من ديسمبر (كانون الأول) 2022، تمهيداً لنقل السلطة للمدنيين.

الآن يطالب كل من الطرفين المتحاربين بإزاحة الآخر، وهي أشياء ربما لن تحدث حتى تضع هذه الحرب أوزارها، ومع دخول الحرب شهرها الخامس يبدو أن السودان يستعد لصراع أطول وأوسع نطاقاً بعد أن تمددت المعارك لتشمل إقليم دارفور، الذي لم تكن نار الحرب قد هدأت فيه بعد، وكل يوم تزداد حصيلة الضحايا واللاجئين والنازحين والخسائر في الممتلكات العامة والخاصة.

منذ البداية شدد مسؤولون في مجال الإغاثة الإنسانية على ضرورة مضاعفة الجهود لضمان ألا يتحول الصراع في السودان إلى حرب أهلية لا نهاية لها مع عواقب وخيمة على المنطقة، وحذروا من أن الشعب السوداني عانى ولا يمكنه الانتظار في ظل معاناة لا يمكن وصفها في خضم أعمال عنف تمزق بلادهم، وفرار أكثر من أربعة ملايين شخص في السودان (نصفهم من الأطفال) من العنف، مع تزايد الحاجة الماسة إلى المساعدة الإنسانية للمتبقين في السودان، وأكثرهم أطفال.

نداءات متكررة

منذ الأيام الأولى للحرب، خرجت منظمات الإغاثة والمنظمات الإنسانية الدولية من الخرطوم وإقليم دارفور بعد تعرض موظفيها للقتل وآخرين للضرب والاحتجاز تحت تهديد السلاح، كما تعرضت المستودعات والمكاتب والمركبات للهجوم أو النهب أو الاستيلاء، لكن قدمت السعودية ودول أخرى مساعدات إنسانية كبيرة وسط مناشدات بأن تؤدي المبادرات إلى فتح مسارات آمنة لإيصال المساعدات الإنسانية الغذائية والطبية وضرورة التزام طرفي النزاع بها، لكن ذلك لم يحدث لأن جميع الهدن التي عقدت خلال الأشهر الماضية لم يلتزم بها أي من الطرفين، وعليه لم تنجح النداءات المتكررة في حث المجتمع الدولي على تقديم مساعدات إنسانية عاجلة، لأن ذلك وإن تحقق لن يؤدي غرضه الحقيقي في ظل استمرار الحرب.

لقد عانى السودان بالفعل مستويات من الضرر لم يشهدها منذ الحرب التي شنها الإمام محمد أحمد المهدي وخليفته على الحكم التركي- المصري والسودانيين معاً.

جاءت حملة محمد علي باشا لغزو السودان عام 1820، وعندما توطد الحكم التركي – المصري، قرر الحكام بناء الخرطوم عام 1832، واستمر ذلك نحو 50 عاماً، قبل أن تندلع ثورة محمد أحمد المهدي عام 1881، حين حاصر أتباعه (الدراويش) الآتون من غرب السودان، الخرطوم منذ مارس (آذار) 1884 وحتى سقوطها في 26 يناير (كانون الثاني) 1885، وانتهاء الحكم التركي- المصري.

كانت قوات المهدي تعسكر في جنوب الخرطوم قبل اقتحام المدينة والتضييق على سكانها من المواطنين السودانيين والأجانب ومعظمهم تجار يونانيون ومن بلاد الشام وأقباط من دول مختلفة، ولم يتوقف التضييق من قبل المهدي وخليفته عبدالله التعايشي، وإنما مارس أتباعه تخريباً كبيراً في المدينة نزولاً عند فتوى أصدرها المهدي بتكفير كل من لا ينضم إلى قواته، بالتالي أحل دمهم وأموالهم وممتلكاتهم ونساءهم.

تجربة دارفور

عجز المجتمع الدولي عن الوفاء بالتزاماته نحو السودان وحماية مواطنيه يعيد إلى الأذهان ما تم في ظروف مشابهة إبان حرب دارفور في عقدها الأول، إذ ظل سكان الإقليم يواجهون الموت، والنساء يواجهن الاغتصاب ثم التشريد والنزوح، وحين تدخلت قوة حفظ السلام المشتركة بين الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي (يوناميد)، كان القصور الأساسي حول تزويدها بالقوات والموارد الأساسية مما حد من الوفاء بولايتها.

ومن تجربة دارفور يمكن أيضاً الاستفادة من أن فشل المجتمع الدولي في حماية شعب دارفور من الفظائع التي ارتكبتها ميليشيات “الجنجويد” في ذلك الوقت نتج من تقليل المجتمع الدولي من فظائع الإقليم لصالح محاولات فصل جنوب السودان.

الآن مع التدهور الأمني والإنساني المطرد، تتساوى المدينتان ولا تزال الجرائم الفظيعة تتواصل فيهما ويموت الناس بأعداد كبيرة، ويخشى مع دخول موسم الأمطار من تعرض البلاد لأوبئة نتيجة تحلل الجثث في الشوارع، فضلاً عن مشكلة صعوبة التصريف المزمنة، كما يمكن أن يؤدي تناقص الموارد إلى حدوث مجاعة.

فشل المجتمع الدولي في حماية المدنيين بنفسه، أو التأثير على طرفي النزاع لإيقاف الحرب والالتزام بالهدن المتفرقة، ولا مفاضلة بين الخرطوم ودارفور في ما تتعرضان له من مآس عديدة ومتواصلة، لكن التركيز الأخير على دارفور من قبل المجتمع الدولي نبع من المعارك التي تحولت إلى إبادة جماعية لقبائل مثل “المساليت” والاعتداء عليهم من قبل قوات الدعم السريع.

أعرب ناشطون عن خيبة أملهم لأن مجلس الأمن لم يجتمع في شأن السودان عاجلاً لتقديم المساعدة، فضلاً عن دعم العاملين في المجال الإنساني، وربما كان من الأوفق أن يركز المجتمع الدولي على إيقاف الحرب واتباع نهج أكثر شمولاً لمشكلات السودان مما كان سيوفر أساساً أكثر أماناً لبناء سلام مستدام على مستوى البلاد، بدلاً من التركيز على إعطاء الأولوية للتقدم في عملية السلام في دارفور مثلاً وإهمال الخرطوم أو العكس. فعندما دان المجتمع الدولي “قوات الدعم السريع” في دارفور، كان عليه أن يهتم أيضاً بكل التعديات التي تحدث في الخرطوم، وأن يتجنب اهتمامه السابق بتحقيق السلام في جنوب السودان وإهمال إقليم دارفور، مما كانت له عواقب وخيمة لا يزال السودانيون يحصدون مراراتها.

تفاعل ضعيف

يتمسك المجتمع الدولي ببعض أدبيات الحروب العالمية، إذ “لا يوجد منتصرون حقيقيون في الحروب، ويتعين على جميع الأطراف المعنية أن تعاني العواقب مع وقوع أعداد كبيرة من الضحايا في كثير من الأحيان من كلا الجانبين”. وهذا التفاعل الضعيف أبرز العوامل التي أسهمت في إطالة أمد الحرب.

فأولاً، مع مقدرته على حشد ‏الجهود لرأب الصدع في السودان، لم يفعّل المجتمع الدولي كثيراً من أوراق الضغط، فمثلاً خفضت الولايات المتحدة نفوذها من خلال إزالة أهم العقوبات التي فرضت على السودان في ظل النظام السابق مقابل الإصلاحات الموعودة بدلاً من التغيير الفعلي، وعندما فرض الفريق عبد الفتاح البرهان إجراءات كانت بمثابة انقلاب على المكون المدني في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، لم تتم إعادة تقييم أي من العقوبات المرفوعة أو غيرها.

ثانياً، لم تفرض أية عقوبات رداً على عمليات النهب وارتكاب أعمال العنف واسعة النطاق في الخرطوم ودارفور، كما أظهرت جولات الوساطة أهدافاً كبيرة لكن لم يلتزمها الطرفان، بل تجاهلا مطالبات دول الوساطة مما أدى إلى ترسيخ الوضع الراهن، وهو طول مدة الحرب من دون حسم.

ثالثاً، بدت المنظمات الإقليمية مثل “الاتحاد الأفريقي” و”إيغاد” بحاجة إلى تفويض أقوى حتى تتمكن من التأثير في السودان، وأسهم في ذلك تعليق عضوية السودان بعد إجراءات البرهان، مما أكسب المكون العسكري موقفاً مضاداً لكل الحلول الإقليمية، وفي الوقت ذاته لم يحترم حلول دول الوساطة.

رابعاً، إن التفاعل الدولي مع الأزمة السودانية لا يتناسب مع الفظائع المرتكبة خلالها، وبينما حصلت استجابة فورية لأزمات أخرى في المنطقة مثل الإبادة الجماعية في رواندا، وخلال أزمة تيغراي في إثيوبيا وغيرها، فإن حرب السودان، مع أنها تطلبت من العالم استجابة جماعية وفعالة، لكن تم تجاوز كثير من مبادئ المسؤولية الدولية في حالات الحروب إزاءها.

تراخي الجهود

يتوقف المجتمع الدولي عند النقطة المركزية التي غض الطرف عنها خلال الفترة الانتقالية وهي عسكرة الدولة، ويركز خلال هذه الحرب على ضرورة الانتقال السريع إلى فترة ديمقراطية، ومع أن ذلك لم يكن هدفاً سهل التحقق قبل الحرب، فإنه في خضمها يكون أقرب إلى التمسك ببدائل مستحيلة عوضاً عن بذل جهود لإيقاف المعارك.

وبسبب تراخي الجهود الدولية لحسم الحرب أو تقديم المساعدة الإنسانية والأمنية، انتهز أعضاء النظام السابق والتيارات الإسلامية التي كانت في حالة خصومة معه على أثر المفاصلة الشهيرة بين عمر البشير وحسن الترابي عام 1999 هذا التقاعس لتفعيل وسائلهم للوصول إلى سطح الأحداث. فالتخويف الشديد من ظهور الإسلاميين، جنباً إلى جنب مع الانتهاكات التي تنفذها “قوات الدعم السريع” على المواطنين واحتلال منازلهم وارتكاب حالات اغتصاب موثقة، أقنع المجتمع الدولي وبعض المنحازين السابقين للقوى المدنية الحليفة حالياً لقوات الدعم السريع باتخاذ موقف مناوئ لهم، مما أفرز هذه الحال التي ظهر فيها معظم السودانيين غير مؤيدين لموقف الجيش الذي لم يستطع حمايتهم.

في مواجهة التهديد الذي يلوح في الأفق باستمرار بأن الحرب الحالية ستتحول إلى حرب أهلية، الأمر الذي قد تكون له عواقب وخيمة إنسانية وسياسية وكلف اقتصادية محلية ودولية، تتبنى الأحزاب مواقف سياسية غامضة.

الألماني الحائز جائزة نوبل في الأدب عام 1972 هاينريش بول، وصف الآثار الطويلة المدى للحروب بالقول “لن تنتهي الحرب أبداً طالما أن الجرح الذي أحدثته في مكان ما لا يزال ينزف”. وعلى المدى الطويل، سيؤدي مزيج من عدم الإحساس بالمسؤولية، والرغبة في التفوق في هذه الحرب بأي ثمن، وهو ما تصر عليه قيادة الجيش و”قوات الدعم السريع”، إلى تقليل إحساس المجتمع الدولي بها. وبالفعل فقد بدأت تتلاشى الدبلوماسية الدولية لمعالجة الأزمات، وأصبح النفوذ الدولي أقل وضوحاً.

المصدر / إندبندنت عربية

مقالات ذات صلة