وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي : عد بي إلى النيل..لا تسأل عن التعب

بالأمس تجولت مع عدد من الأصدقاء في الخرطوم ، هذه المدينة التي تئن تحت جراحات الحرب، لا تزال تختزن في ترابها ما يكفي من الحنين لتوقظ ذاكرة وطن بكامله وبعض بقايا مداد. عاصمة اعتادت أن تكون مرآة البلاد وقبلتها، وإن حاول المخذّلون النيل منها في ليل الغدر والخيانة، ها هي تستعيد وجهها بإصرار لا يعرف المساومة أو التراجع أو الانكسار.

رصدنا نشاط يكاد لا يتوقف لم يعد خافيًا على أحد الجهد الذي تقوم به حكومة الولاية لإعادة تأهيل البنى التحتية، بجانب مبادرات متفرقة لإصلاح ما دمّرته الحرب، من المستشفيات إلى الطرق إلى المدارس. ثمّة عودة حقيقية بدأت تدبّ في المدينة، لكنها لا تكتمل دون أن يواكبها نهوض شعبي وانتباهة وطنية تضفي على تلك العودة روحًا ومعنى. فمن المعلوم أن الدولة وحدها لا تعيد مدينة إلى الحياة، بل يعيدها الإنسان بإرادته، وحنينه، ومشاركته، وجهده.

حتى تُصبح كلمات شاعرنا الفذّ سيف الدين الدسوقي: “عد بي إلى النيل، لا تسأل عن التعب”، بطاقة مرور جماعية إلى وطن لا يقبل أن يُغترب عنه الناس أو يُختزل في جراح الحرب. من يحمل هذا الحب للموطن يجب ألا يتردد في حمل معاول البناء، ليؤسّس لمرحلة جديدة، ولحلم نضِر ظلّ يراود أهل الخرطوم بعودة الحياة كما كانت، بل وأفضل.

أم درمان، في هذه اللوحة الحاضرة كعادتها، كانت ولا تزال النموذج الأكثر تعبيرًا عن قدرة اهل السودان على تخطي المحن. المدينة التي تحتضن كل ألوان الطيف السياسي والاجتماعي والفني، أعادت فتح أسواقها، ومساجدها، وذاكرتها التي أرادوا طمسها. لأنها مدينة مترعة بالجمال والمرحمة، كما تحمل تاريخًا باذخًا من ليل الحكايات وشجن المحبين. حين تعود أم درمان، لا تعود لنفسها، بل تُلزم الخرطوم أن تعود.

أم درمان التراث، والعلم والقيم والانتماء؛ فهي التي جمع سوقها بين العناقريب والعطور، والكتب الفخمة المكتنزة بتجارب الأجيال، وباعة البقلاوة والكنافة وعصير الليمون . مدينة أنجبت الإذاعة، والمسرح، والبرلمان، واحتضنت الشعراء، والمغنين والثوار.. وأهل الذكر والفكر والنجباء. حين قال خليل فرح: “فتيح للخور للمغالق”، كان يستدعي ذاكرة وطنية مترعة بالانتماء، والكرامة، وحب الناس.

وكما قاومت المدينة الاستعمار وحياة الاحتمال، قاومت اليوم الخراب بنفس الروح التي غنّى بها خليل فرح: “قدلة يا مولاي، حافي حالق، بالطريق الشاقي الترام” طريق لا يعرفه من جاء ليحرق، ويسرق، ويطمس الهوية.. ويخطف الذكريات التي ليس له فيها نصيب.

هذه الرمزية النضِرة التي تمثلها أم درمان يجب أن تُستلهم في كافة أرجاء الولاية. فإعمار الخرطوم يتطلب تبني فلسفة “العودة للروح”. فقد تم نظافة استاد المريخ وتشغيل الميناء البري، وعدد من المستشفيات، ويجري هذه الأيام رصف الطرق، وتشغيل محطات المياه في المقرن وبحري، والكهرباء في جميع المحطات التحويلية. فالخرطوم، بما تحويه من تنوّع جغرافي وبشري، تمثّل قلب السودان النابض. لذلك، فإننا مطالبون اليوم بالتضامن والاتحاد، وأن يلازم الجهد الشعبي الرسمي لتسريع وتيرة إعادة الإعمار.

ما يجري من إصلاحات إدارية وأمنية في ولاية الخرطوم هو جهد مقدّر، لكنه لا ينبغي أن يتم ، بمعزل عن استنهاض الشباب. فالناس معدنهم أغلى من الذهب، كما وصفهم الدسوقي، لذلك فإن التعويل الحقيقي على قدرتهم على تحويل الخراب إلى وعد جديد، إلى نهضة تنموية تُدهش من كانوا يُحدّثون أنفسهم بالسطو عليها عبر خياراتهم الكذوب.

في هذا المشهد، تقف حكومة الولاية أمام تحديات كبيرة: تأمين الوقود، إعادة تشغيل المرافق، احتواء الأوبئة، واستعادة الخدمات الصحية والتعليمية. لكن التحدي الأكبر يظل في بناء الثقة. فقد تم تسجيل عودة أكثر من 70 ألف مواطن إلى الخرطوم خلال شهر أبريل. هذه العودة، وإن كانت تعكس تحسّن الأوضاع، فإنها تمثّل في ذات الوقت تحدّيًا كبيرًا للسلطات فيما يتعلق بتوفير الخدمات الأساسية، وضمان الأمن، واستيعاب هذه الأعداد في منظومة اقتصادية واجتماعية وخدمية يجب أن يكون الجميع جزءً منها. فالحياة في الخرطوم أصبحت قرارًا.

الخرطوم، يا سادة، ليست مكانًا نعود إليه، بل لحظة من وعينا الأول بالقيم والانتماء، نُستدعى فيها الحنين الذي لا يشيخ. فكما قال الدسوقي: “عد بي إلى النيل، لا تسأل عن التعب”، فإن العودة إليها ليست فعل مشقة، بل انقياد داخلي إلى ما يشبه المصير. إنها المدينة التي تعرف أهلها وأحبابها، تعرفنا أكثر مما نعرفها.. هذا هو #وجه_الحقيقة.

دمتم بخير وعافية.
الأثنين 12 أبريل 2025م Shglawi55@gmail.com

مقالات ذات صلة