وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي : فيلوثاوس.. أيقونة التسامح والوفاء

في مسيرة الدولة السودانية الحديثة، قلّما برزت شخصية دينية أو سياسية تجاوزت حدود المؤسسة الكنسية لتصبح ضميرًا وطنيًا جامعًا، كما فعل القمص فيلوثاوس فرج، كاهن كنيسة الشهيدين بالخرطوم، المفكر، وسفير السلام، والنائب البرلماني السابق. كان حضوره في الشأن العام نابعًا من كاريزما شخصية تميز بها بين أبناء جيله بجانب منصبه الديني ، كما كان الرجل يمثل انعكاسًا لفهم عميق لمعنى المواطنة كقيمة تتجاوز الطائفة، وتتغلغل في الفضاءين السياسي والاجتماعي بروح جامعة توحّد الناس قاطبة.

في العام 2016، وخلال الاستفتاء الإداري حول الوضع السياسي في دارفور، التقيت بالدكتورة “ما رثا جوزيف” في مؤتمر صحفي، وهي إحدى الناشطات في منظمات المجتمع المدني، ونائب رئيس الاتحاد الوطني للشباب السوداني. أكدت لي أن الأب فيلوثاوس كان من أبرز الداعمين لمشاركة الشباب الأقباط في الحياة العامة ومراقبة الاستفتاء، من خلال منظمات وطنية شاركت تحت راية السودان، لا الطائفة أو الدين، بل لأجل استقرار البلاد. وقد وجّههم للعمل في البرامج الصحية والتوعوية والاجتماعية، ثم في مراقبة الاستفتاء ميدانيًا، في وقت كان كثيرون يترددون في أداء هذا الدور الوطني الحساس.

لقد امتد وجود الأقباط السودانيين في دارفور وغيرها من الأقاليم لأكثر من سبعين عامًا، وكان وجودًا متجذرًا ومتفاعلًا مع نسيج المجتمع المحلي عبر التجارة والعلاقات الاجتماعية. وقد جسّد القمص فيلوثاوس هذا التفاعل الحي، إذ مثّل في حياته نموذجًا للانفتاح بين الانتماء الروحي والانخراط الفاعل في الشأن العام.

وُلد القس فيلوثاوس فرج عام 1944، ونال دكتوراه في الفلسفة من جامعة القاهرة فرع الخرطوم. من أبرز مؤلفاته: “المجموع الصفوي” و”القضاء الشخصي عند الأقباط”. توفي في 24 مايو 2025 عن عمر ناهز 81 عاما.

وقد نعت الدولة وفاته رسميًا، وشاركت معظم الأحزاب السودانية في مراسم العزاء، بما في ذلك المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي، مؤكدين دوره في دعم التماسك الوطني وتعزيز اللحمة الاجتماعية. ونعاه مجلس السيادة باعتباره رجلًا خدم السودان بتفانٍ، وترك إرثًا من العطاء والتسامح والمحبة، بل وصفه بأنه “رمز من رموز العيش المشترك”.

إنّ تاريخ الأقباط في السودان حافل بالعطاء في مجالات التعليم، والصحة، والاقتصاد، والخدمة المدنية، غير أن ما ميّز القمص فيلوثاوس هو توظيف هذا الإرث في بناء الحاضر، من خلال تمكين الشباب وخدمة الحوار المجتمعي. لقد كان يؤمن بأن السلام ليس مجرد اتفاق سياسي، بل ممارسة يومية لقبول الآخر، وهي الفلسفة التي طبّقها فعليًا من خلال نشاطاته في الداخل السوداني والمهجر.

وفي مناخنا الراهن المشحون بالتجاذبات، تبرز أهمية الرموز الوطنية الجامعة. فهؤلاء لا يُمثلون شخصيات اعتبارية فقط، بل يُؤدون دورًا محوريًا في صيانة الهوية الوطنية وتوحيد الرؤية. وكما قال الفيلسوف جان جاك روسو: “الوطن ليس الأرض فقط، بل هو أيضًا الإرادة المشتركة التي توحّدنا”.

بهذا المعنى، شكّل القمص فيلوثاوس تجسيدًا لتلك الإرادة السودانية التي تجاوزت الفواصل الدينية والإثنية، وجعلت من وحدة المصير شعارًا وممارسة. وقد خلّف عددًا من الكتب والإصدارات التي أثْرت المكتبة السودانية.

ومن هنا فإن غياب مثل هذه الشخصيات دون استعادة إرثها في وعي الأجيال، يُنذر بفراغ كبير. فالدول لا تُبنى بالأنظمة والسياسات وحدها، بل بالرموز التي تمنح للسياسة بُعدها الأخلاقي، وتُعطي للوطن معناه الجامع. وهذا ما فعله سماحة القمص؛ إذ زرع في وعي الناس فكرة الوطن المشترك، كواقع يجب حمايته والعمل لأجله.

وفي هذا السياق، من الضروري أن يستلهم جيل الشباب اليوم هذه النماذج التي جمعت بين الإيمان والعمل الوطني، بين العقيدة والعدالة، بين الخصوصية والانفتاح. فالوطن يحتاج إلى من يشبهونه: من يُحسن الإصغاء، ويجمع لا يفرق، ويبني الجسور لا المتاريس.

وعليه بحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة فرغم رحيل القمص فيلوثاوس، إلا أن صوته لا يزال حاضرًا في ذاكرة المكان والجغرافيا والتاريخ. احترامًا، وتقديرًا، ووفاءً. فلا سلام بلا عدالة، ولا وطن بلا رموز توحّد. رحل فيلوثاوس ، لكن روحه ستظل منارة تهتدي الأجيال لأجل الوحدة الوطنية والوعي المجتمعي بأهمية التعايش السلمي.

له الرحمة ، بارك الله خطاه واثابه بما قدم ،والعزاء لأسرته ومحبيه، وأن يُلهم وطننا الصبر والسير على خطاه.

دمتم بخير وعافية.
الإثنين 26 مايو 2025م Shglawi55@gmail.com

مقالات ذات صلة