زيارة مدير المخابرات الإثيوبي إلى بورتسودان .. رسائل استخباراتية في بريد البرهان .. -بقلم: المهندس خالد مصطفى الصديق الفزازي

في توقيت بالغ الحساسية ، حطّ مدير جهاز المخابرات الإثيوبي رضوان حسين رحاله في مدينة بورتسودان حاملاً رسالة خاصة إلى الفريق أول عبد الفتاح البرهان ، رئيس مجلس السيادة السوداني .
لم يكن الأمر مجرد زيارة بروتوكولية عادية ، بل خطوة ذات دلالات استراتيجية عميقة تتقاطع فيها أبعاد أمنية وسياسية إقليمية ، وتجري قراءتها في الخرطوم وبورتسودان والقاهرة وأديس أبابا وواشنطن بعين فاحصة .
دلالة وصول شخصية استخباراتية رفيعة إلى بورتسودان ــ وليس وزير خارجية أو موفداً دبلوماسياً ــ تضع هذه الزيارة في إطار الرسائل الأمنية العاجلة ، وربما التحذيرات أو التفاهمات ذات الطابع الحساس التي لا تُنقل عبر القنوات العادية .
فالإثيوبيون ، بخلفيتهم الأمنية المعروفة ، يدركون أن بورتسودان اليوم هي العقل السيادي والسياسي الفعلي للدولة السودانية ، ومنها تصدر القرارات ، وعبرها تُدار الملفات الكبرى منذ انزلاق البلاد إلى أتون الحرب .
تزامن الزيارة مع تعيين الدكتور كامل إدريس رئيساً للوزراء يعطيها بُعداً إضافياً .
إذ أن أديس أبابا ، التي تتابع المشهد السوداني بعين قلقة ، قد تكون أرادت إرسال إشارات واضحة لقيادة الدولة بشأن المرحلة المقبلة . الدكتور كامل إدريس شخصية مدنية ، قانونية ودولية الهوى ، ويحظى بقبول غربي ، وهي صفات قد تُقلق إثيوبيا التي تستند في تعاملها مع السودان على توازنات أكثر ميلاً للمكون العسكري ، خاصة فيما يتعلق بملف الحدود وسد النهضة .
من هنا ، قد تكون الرسالة المرسلة للبرهان تهدف إلى التأكد من أن تعيين إدريس لا يعني تغييراً جذرياً في سياسة السودان الخارجية أو اصطفافاته الإقليمية .
لكن البعد الأخطر في الزيارة هو ما يتعلق بالحرب الجارية في السودان .
رغم إعلان الحياد الرسمي ، لم تخف تقارير استخباراتية وإعلامية عديدة الاشتباه في تورط غير مباشر لإثيوبيا ، سواء عبر التغاضي عن تحركات مليشيا الدعم السريع في المناطق الحدودية ، أو عبر تسهيلات لوجستية قد تكون جرت عبر أطراف محلية في إقليمي بني شنقول أو الأمهرا .
وصول مدير المخابرات الإثيوبي في هذا السياق قد يعكس رغبة إثيوبيا في إيصال رسائل بعدم رغبتها في مزيد من التصعيد ، وربما عرض معلومات استخباراتية تتعلق بتحركات مرتزقة أو جماعات مسلحة في المناطق الحدودية المشتركة .
هناك أيضاً بعد إقليمي لا يقل أهمية .
فمصر تنسق بشكل وثيق مع القيادة العسكرية السودانية ، لا سيما في ما يتصل بسد النهضة والأمن الإقليمي للبحر الأحمر .
كذلك ، فإن الدور الخليجي ، خصوصاً الإماراتي والقطري ، آخذ في التوسع داخل الساحة السودانية .
وتخشى أديس أبابا أن تجد نفسها في موقع المتفرج بينما تُعاد صياغة خارطة التحالفات في المنطقة .
زيارة رضوان حسين إذن هي محاولة حثيثة لحجز موطئ قدم في مرحلة ما بعد الحرب ، ولمنع أي تحالفات قد تُقصي إثيوبيا من دائرة التأثير .
الأمر لا يخلو أيضاً من رسائل إلى واشنطن والغرب .
فتعامل إثيوبيا مع كامل إدريس ، الذي يُعد في نظر العواصم الغربية شخصية إصلاحية محتملة ، يعكس قلقاً من أن يؤدي تعيينه إلى إعادة السودان تدريجياً إلى دائرة النفوذ الغربي ، بعد سنوات من التوتر والتقلبات .
إثيوبيا التي عانت هي الأخرى من الضغوط الغربية خلال حرب تيغراي ، لا ترغب في أن ترى جارها الغربي يتحول إلى قاعدة نفوذ غربي جديدة في القرن الإفريقي .
ولهذا ، فإن استباق الأحداث عبر التنسيق المباشر مع البرهان في بورتسودان قد يُعد استثماراً استراتيجياً لضمان المصالح الإثيوبية في المرحلة المقبلة .
واختيار بورتسودان تحديداً كوجهة للزيارة ، بدلاً من أي مكان آخر ، يحمل دلالة واضحة على اعتراف إثيوبيا الكامل بشرعية الفريق أول عبد الفتاح البرهان بوصفه مرجعية الدولة السودانية .
وهذا الاعتراف ليس مجاملة دبلوماسية ، بل خطوة محسوبة تُراد بها مخاطبة مركز القرار الحقيقي في الدولة السودانية الجديدة ، ومجاراة الوقائع الميدانية والسياسية على الأرض .
الرسالة الأهم التي يمكن استخلاصها من هذه الزيارة هي أن أديس أبابا تدرك أن ما يجري في السودان ليس مجرد إعادة تدوير للنخب ، بل هو إعادة تشكيل شاملة لمعادلات الحكم والتحالفات الإقليمية والملفات السيادية .
ولذلك ، فإنها تتحرك الآن لتأمين مصالحها قبل أن تتبلور تلك المعادلات بشكل نهائي ، أو تُفرض من الخارج .
وبينما ينشغل الداخل السوداني بملفات الحرب والإغاثة وإعادة البناء ، ينبغي أن يُقرأ هذا التحرك الإثيوبي بعين حذرة وعقل يقظ ، لأنه يعكس بداية سباق إقليمي على التأثير في شكل السودان القادم ، وشبكة علاقاته وتحالفاته ، وهو ما قد يضع البلاد على مفترق طرق جديد في ظل انكشاف جغرافي وحدودي لم يعد من الممكن تجاهله أو تأجيل التعامل معه .
المهندس خالد مصطفي الفزازي -خبير الإستراتيجية و إقتصاد المعرفة