وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي : احذروا عودة الرباعية للواجهة

يأتي الحراك الأخير للرباعية الدولية المعنية بالسودان التي تضم الولايات المتحدة والسعودية والإمارات وبريطانيا ومصر مؤخرًا في سياق إعادة ترتيب موازين النفوذ في الإقليم، وليس ضمن مساعٍ حميدة لإنهاء الحرب السودانية كما قد يُفهم من ظاهر التصريحات. هذه الرباعية، التي نشأت عمليًا عقب سقوط نظام البشير في 2019، دون تفويض شعبي أو دولي واضح، رفعت شعار “دعم الانتقال الديمقراطي”، لكن تجربتها، عكست مقاربة فوقية، سعت إلى فرض ترتيبات سياسية لا تنبع من الداخل السوداني، بل من حسابات إقليمية ودولية.
تاريخ الرباعية يشي بميلها إلى استثمار الهشاشة السياسية في السودان، خاصة خلال فترة حكومة د. عبد الله حمدوك، التي لم تحظَ بتفويض انتخابي ، ما فتح الباب أمام تدخلات مباشرة في الشأن السوداني ، أبرزها دعم مشروع “دستور المحامين” الذي وُجهت له انتقادات لكونه يكرّس هيمنة نخبوية مدنية غير توافقية، ويمهد الطريق لتدخلات أجنبية تحت غطاء قانوني سياسي. كما كان للدعم الذي حظي به الاتفاق الإطاري من قبلها والذي ساوى بين المؤسسة العسكرية ومليشيا الدعم السريع دورٌ كبير في خلق حالة من الانقسام الحاد داخل الساحة السياسية السودانية. وهو ما رأته تقارير حقوقية مثل “هيومن رايتس ووتش” تهديدًا لاستقرار الدولة ووحدتها (HRW, 2022).
عقب اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، نتيجة المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قادتها مليشيا الدعم السريع بدعم إقليمي ومحلي من بعض القوى السياسية، عادت الرباعية الدولية إلى الواجهة تحت عنوان “وقف الحرب”. غير أن هذه العودة لم تكن مصحوبة بمراجعة جادة للسياسات التي أسهمت في تعقيد المشهد، سواء ما تعلق بتمرير بعثة فولكر بيرتس الأممية أو الضغط لفرض تسوية سياسية أحادية الجانب.
اللافت أن الاجتماعات الأخيرة ،التي احتضنتها واشنطن، حسبما نقلت وكالة رويترز. توحي بوجود رغبة في إعادة تموضع أكثر منها رغبة في حل جذري للأزمة. فالتأكيد الأمريكي على “رفض الحل العسكري” يفتقر إلى الفاعلية طالما لم يقترن بوقف الدعم الخارجي المتواصل الذي تتلقاه مليشيا الدعم السريع، خصوصاً في ظل عدم الالتزام بتنفيذ اتفاق جدة الموقع في 11 مايو 2023، والذي لم يُفعّل على أرض الواقع رغم مرور أكثر من عامان على توقيعه.
على الرغم من الترحيب الذي أبدته بعض القوى السياسية السودانية، مثل “تحالف صمود” حيال هذا الاجتماع، إلا أن المخاوف تبقى مشروعة. فالتجربة أثبتت أن الفاعلين الدوليين والإقليميين يميلون إلى استخدام الأزمة السودانية كورقة ضمن صراع النفوذ ، أكثر من حرصهم على تأسيس سلام مستدام يستجيب لتطلعات السودانيين .
لقد أصبح واضحًا أن أي حل حقيقي لا يمكن أن يُفرض من الخارج، ولا يمكن أن يولد من رحم تسويات انتقائية، بل لا بد أن يأتي من حوار وطني شامل يعقد داخل السودان، يشارك فيه جميع السودانيين ، ويقوم على رؤية وطنية مستقلة تُعيد هيكلة العلاقة بين المدنيين والعسكريين على أسس جديدة أساسها ان العسكريين هم الضامن لوحدة البلاد وامنها. وأهم من ذلك، يجب أن يكون مدخل الاستقرار هو تفكيك وإعادة دمج المليشيات في القوات المسلحة، وفق لقانون القوات المسلحة السودانية بجانب محاسبة الضالعين في الانقلاب ، بما ينهي حالة الافلات من العقاب و ازدواجية السلاح ويضمن عدم العودة الي الحرب مرة أخرى.
في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية، لم يعد السودان تلك “الحديقة الخلفية” التي يمكن العبث بها أو توجيه مساراتها من الخارج. لقد أصبح أكثر وعياً بحجم التحديات، وأشد إرادة في حماية سيادته وصون وحدته الوطنية. وعلى الرباعية الدولية أن تدرك أن دورها إن “كانت جادة” لا ينبغي أن يقوم على هندسة السلطة من الخارج، بل على تمكين السودانيين من صياغة مصيرهم بأنفسهم، دون وصاية أو تدخل.
قال جان جاك روسو: “الشعب هو صاحب السلطة، ولا يجوز لأي فرد أو مؤسسة أن تتجاوز إرادته، فالسيادة هي جوهر الدولة، والعقد الاجتماعي الذي يربط الشعب بالدولة لا يمكن أن يقوم إلا على إرادة الجميع. فالحرية هي أن تحكم نفسك بقوانين تضعها أنت كجزء من الجماعة، لا أن تُقاد من قوى خارجية أو مؤسسات تفرض وصايتها.”
وفق لما نراه من #وجه_الحقيقة، فإن إنهاء الحرب في السودان لن يأتي عبر صفقات بين العواصم ، بل ثمرة لمشروع وطني خالص ينمو من داخل المجتمع السوداني، ويتكئ على إرادة شعبه في استعادة وطنه من قبضة الفوضى وسلطة السلاح وتدخلات الخارج. إن السلام الحقيقي لن يتحقق إلا عبر مبادرة وطنية شاملة، تنأى عن الوصاية، وتُعلي من شأن الإرادة الشعبية لبناء الدولة السودانية العادلة والمستقرة، التي تقدم مشروع الوطن علي المشروعات العابرة للحدود.
دمتم بخير وعافية.
الخميس 5 يونيو 2025 م Shglawi55@gmail.com