اقتصاد ضخم و عقول متضخمة
دكتور عادل النيل
قتصاد ضخم وعقول متضخمة …..
ربما لا توجد دولة في العالم “تستهلك وقتها” في “التراجع الاقتصادي” مثل السودان رغم كل ما يتوفر من إمكانات وموارد طبيعية، وفي الوقت نفسه هناك دوما فرصة للنهوض والانطلاق لا تتوفر لكثير من الدول، غير أن النخب الحاكمة تختزن في معيتها لإدارة الدولة كل فشل ممكن أو صراع محتمل لإيقاف دولاب العمل العام أو إبطائه.
ليست من مشكلة مطلقا في الشعب “المواطن المنتج أو العامل”، أو الأرض بمواردها وثرواتها الطبيعية، أو السماء التي يتنزل رزقها على البلاد والعباد، وإنما المشكلة كلها في مركز فاشل، وسياسيون يجسدون المأساة بكل تفاصيلها، وبمزيد من الوضوح حين يكون الطالب الجامعي مشروع سياسي يتحدث في أركان النقاش بكل طلاقة وبلاغة في الخطاب فإنه عندما يتحوّل إلى سياسي سيكتشف كثيرا من المفارقات بين الواقع في حالة التنظير عنه في التطبيق.
هذا الفخ هو الذي يمارس فيه السياسيون العمل السياسي فيصبحون حينها أقصر ظلا وأقل قامة عن أي منصب يفترض أن ينتهي بهم إلى تحقيق إنجاز، وهذا للأسف حال كثير من دول العالم الثالث المرتهنة إلى غيرها بشكل كبير، ولنأخذ مثالا على ذلك بما كانت عليه كوريا الجنوبية وغانا في الستينات الميلادية من القرن الماضي، حيث كان الدخل الفردي لكليهما 230 دولارا واليوم دخل كوريا عشرات أضعاف أفضل منه في غانا. وكانا يمتلكان اقتصادا زراعيا وعاشا نصف قرن أو أكثر من الحكم الاستعماري.
إذن المشكلة في العقلية التي تدير الدولة، ففي تلك الستينات كان اقتصاد السودان بما يجعله يقدم التبرعات لليونان، والجنيه يعادل عددا مقدرا من الدولارات وبقية سلة العملات الرئيسية، لكن حين بدأ المنحنى الاقتصادي في الهبوط نهاية السبعينات الميلادية لم يجد من ينقذ الموقف، حينها بدأ تطبيق بعض مبادئ الاقتصاد الإسلامي، ولم تكن البنية التحتية مؤهلة لذلك، كما لم تكن هناك كوادر كافية لهذا التطبيق فكانت النتيجة أن دخل الاقتصاد إلى النفق المظلم بحيث أصبح أسوأ من اقتصاد غانا الآن.
معادلة الاقتصاد السوداني الآن تكشف عن خلل بنيوي عميق، فالزراعة تحتاج إلى مدخلات إنتاج لا تزال الدولة تعجز عن توفيرها، وما ترتب من فساد منظومة الحكم السابقة حوّل شعار “نأكل مما نزرع” إلى مشروع انتهازي قبيح، أصبح الطفيليون فيه يستوردون الطماطم ويعثّرون إنتاجها محليا لأن ذلك يجلب لهم دولارا يحطمون به العملة الوطنية ويصاب الاقتصاد بوباء التضخم والانكماش.
في كل الأحوال، يظل السودان مستقر الأمن الغذائي العربي وثلث العالمي بتقديرات الأمم المتحدة، فالأرض موجودة وكذلك المياه والشعب، ولكن المفقود هو العقل الاقتصادي والسياسي، الذي يضع اعتبارات لكثير من الصدارات الإنتاجية لبلادنا على مستوى العالم في محاصيل الصمغ العربي، السمسم، الذرة البيضاء، البامية، الفول السوداني، الفاصوليا، الدخن، التمر، والبرسيم وغيرها مما يمكن أن يرتفع عائده وإنتاجه.
لا مشكلة لدينا في الإنتاج ولكن من يدير هذا الإنتاج، فلا يزال مشروع الجزيرة أكبر مشروع زراعي مروي في العالم، ولا يزال خزان سنار قائما، ولا يزال السودانيون يملكون الطموح والإرادة.. فقط هم من يتورطون في إدارة الدولة أقل قدرا من أبسط سوداني في هامش الجزيرة والشمالية.