السودان والثقب الاسود: فى نقد الدولة والهوية

ابوالقاسم قور حامد
(بالمنطق)
الجزء الأول
1-2
مقدمة:
تستعير هذه المقاربة عنوان (الثقب الاسود) برمزية المآل كما هو فى علم الفيزياء ، حيث يعتقد الفيزيائيون أنه في حين أن الجسيمات التي تسقط في الثقب الأسود يمكن أن تختفي، فإن معلوماتها تستمر في البقاء على الحافة في منطقة تسمى “الشعر الناعم” للجسيمات الكمية، وقد تم تشبيه هذا بالطريقة التي يلتقط بها شعر الأنف الغبار (هوكينج :2015).نقد الدولة والهوية منظومة فكرية ورسالة فى شرح اوهام آحادية الهوية السودانية والدولة، عبر شروط تاريخية، ان فكرة البحث عن هوية واحدة ، ودولة واحدة ليست من السمات الاساسية السيمانتية الجوهرية للسودان.
كما يفرق الباحث بفرضية راكزة فى الفلسقة السياسية بين (السودان الموضوعى) و(السودان التاريخى).. السودان الموضوعى هو الحيز الجغرافى الذى يعرف بالسودان منذ فجر التاريخ، اما السودان التاريخى هو متولد تجارب هذا المكان الموضوعى جراء التحولات والترتيبات الاستراتيجية والاجتماعية فى سعيه نحو بناء الدولة الحديثة منذ مطلع القرن العشرين.
وتخلص الدراسة الى حيققة اختفاء السودان الموضوعى، وتنامى السودان التاريخى بتعثر اساسه فشل الفكر السياسى السودانى فى مقاربة منظومات الدولة الحديثة مثل الحكم، والعدالة والاقتصاد وحقوق الانسان والثقافة.
وتذهب الدراسة الى فحص اسباب هذا الفشل وتفيض فى نقد منشأ الاحزاب السياسية فى السودان، وتولى الدراسة ثورة ديسمبر 2020م اهتماماً كبيراً، والتى تمثل النهاية ( الضرورية ) للسودان الموضوعى والتى تمثل الشعر الناعم.ان ثورة ديسمبر التى اطاحت بنظام الانقاذ بعد ثلاثين عام من الحكم، تمثل بداية العبور نحو بلورة مشروع الدولة الحديثة لكن سيواجه هذا التبلور العبور معضلة الانتقال لدول مابعد النزاع Post-Conflict states، وهو المهدد بالانتكاس، وربما انهيار الامن الشامل فى هذا الفضاء.

ثقافة “الكلونيالية”
هدفى من هذه الدراسة هو كشف زيف الايدلوجيا فى السودان التى ادعت ملكية الحل فى تقلباتها بين اليمين واليسار، وفضح المركزية الثقافية لسودان ما بعد “الكلونيالية” الباحث عن دولة واحدة ذات هوية عروبية، والاشارة الى فلق القوة الناعمة التى ستمتلك زمام المبادرة فى العقد الثالث من القرن الحادى والعشرين.
تجيئ هذه الرسالة والسودان يمر بمرحلة انقطاع مد ثورة ديسمبر 2020، بتدخلات الايدولوجيا مما يوفر احتمالات تصاعد نزاع شركاء الثورة، والذى من المحتمل أن يفضى الى مزيد من محاولة الحكومة التحكم على المواطنين وكبت الحريات، فهى تتبع نموذج صعود وانهيار ثورات الربيع العربى فى مطلع هذا القرن العشرين.
وفى الشرق الاوسط ثمة محاولات بذلتها الحكومات للحفاظ على التحكم لم تسفر الا عن نتائج أكثر كارثية، فدولتا سوريا والعراق شهدتا صراعاً راعباً ومتواصلاً، الصراع الطائفى المدفوع بالتنافس الاقليمى يزلزل العديد من البلدان العربية بتكلفة الى عشرات الآلاف من الأرواح.
فى الشرق الاوسط، مثلت الدول كوارث بالنسبة الى الناس، فلم تجلب اياً من من الأمن أو الحرية أو الأزدهار بل نقائضها”. (كارن:2017 م،ص15 ).

السودان الموضوعى
تشكل فكرة الانتماء الى السودان الموضوعى خطراً ومهدداً لبناء الدولة الحديثة فى السودان، ذلك للنشوء الاعتباطى لهذا المكان.ذلك هو الفضاء الكبير الذى يفصل بين الشواطيئ الغربية للبحر الاحمر وتخوم البحر الابيض، قد حدثنا التاريخ من قبل ان وجود مجموعات بشرية مختلفة فى مكان واحد عبر التاريخ لا يعنى بأى حال من الاحوال بالضرورة انهم شعب واحد، ولا يعنى ذلك بالضرورة نشوء دولة واحدة.
بالطبع هذه هى الحقيقة التى يعترض عليها غالبية السودانيين: منذ ألاف السنين أطلق المصريون اسم اسم تانهسو على المنطقة التي تقع جنوب مصر ويعنون بهذا اللفظ بلاد السود، في حين ورد الاسم إثيوبيا في كتاب الإلياذة مرتين، وفي الأوديسا ثلاث مرات للدلالة على المنطقة ذاتها، وهو اسم مركب من لفظين باللغة الإغريقية وهما ايثو (aitho) بمعنى المحروق، وأوبسيس (opsis) أي الوجه وبذلك يصبح اللفظ إثيوبيا Aethiopia باللغة الإغريقية Αἰθιοπία) مرادفا لبلاد الوجوه المحروقة أو البشرة البنية أو السوداء اللون.
كذلك ورد اللفظ إثيوبيا في كثير من تراجم الكتاب المقدس العهد القديم بالمعنى ذاته وللدلالة على المنطقة جنوب مصر، وتحدثت الترجمة اليونانية للكتاب المقدس العهد الجديد عمّا وصفته بخادم إثيوبي للملكة النوبية الكنداكة، لكن النصوص العبرية في التوراة ذكرت اسم بلاد كوش مرات عديدة (37 مرة) للإشارة إلى بلاد النوبة، جنوب مصر، حيث نقرأ “من أشور ومن مصر ومن فتروس ومن كوش ومن عيلام وشنعار ومن حماة ومن جزائر البح” (أشعياء 11: 12).
بالطبع هذا المكان الجغرافى العريض القديم، هو ذات المكان الذى كثّف مفهوم الشعب الواحد فى دولة واحدة باسم السودان.
لكن بالطبع لم يكن هذا المكان دولة واحدة .فقد وقرت كتب ثلاثة رحالة للاورييين صورة مفصلة عن مناطق ثلاثة مختلفة لم تكن تسمى السودان.

رحلة بروس
فى عام 1790م وصف جيمس بروس James Bruce رحلته النيلية من الحبشة الى اسوان التى زار فيها بلاط سلطان الفونج بسنار .وفى عام 1800م نشر وليم جورج William George Brown انباء عن رحلته قى دار فور واقامته هناك قى الوقت الذى كانت فيه سلطنة الفور فى اوج مجدها.
وفى عامى 1813م و 1814م قام الرحالة السويسرى جون لويس بركهارت John Lews Burkhardt برحلة اخترق خلالها المجرى الرئيسى للنيل حتى شندى ثم عبر السودان الشرقى حتى سواكن.
لم يكن اسم السودان يطلق على تلك المناطق التى عبر بها هؤلاء الرحالة (هولت:1978،ب ت)، لكن فى الحقيقة ان الدراسات الحديثة لم تجد غير الاشارة الى القبائل فى توصيفها لهذا المكان وهو ما نجده لدى ب.م.هولت وهو يفيض فى وصفه “اشتمل السودان المصرى قبيل المهدية على مساخة كبيرة من المناطق الممتدة بين الجندل الثانى والبحيرات الاستوائية من ناحية وبين البحر الأحمر و السلطنات الواقعة على الاطراف الغربية لدار فور من ناحية أخرى”، لكن يذهب البروفسير هولت الى التوصيف العرقى فيقول ” وتتناثر على شاطيئ هذا المجرى مجموعة من القبائل المستقرة ابرزها من الشمال الى الجنوب المحس، والدناقلة والشائقية والجعليين وتقع بلاد المحس الى الشمال من الجندل الثالث بينما يستقر الدناقلة بجوار ذلك الجزء من النهر الواقع بين الجندل الثالث وكورتى وقد وقعوا لبضع سنوات قبل الفتح المصرى تحت سيطرت المماليك الهاربين الى الجنوب الذين تحول العضى “(هولت:1978،ص 11،10).

اعتقاد الصفوة
لعل اهمال صيرورة تحول هذا الفضاء العريض الى دولة واحدة تسمى السودان كان له اثره فى العديد من التعقيدات التى تمر بها عملية صناعة الدولة الحديثة فى السودان. فالاعتقاد الجازم لدى الصفوة السودانية بأرجاع اصول نشأة السودان الى الفتوحات العربية الاسلامية لم تتيح مقاربة انفتاح هذا الفضاء الشاسع الى هجرات شمال وشرق افريقيا، مما يؤسس الى نشوء مركزية نشوء الدولة السودانية “.
يضيف القاضى على عبد الرحمن الأمين معلومات هامة فى اثباته القومية العربية فى كتابه الديمقراطية والاشتراكية فى السودان: ثم أخذ العرب ينحدرون من شمال افريقيا نحو الجنوب فوصل ربوع السودان افواج منهم اتجهت جنوباً عن طريق النيل مخترقة مملكة النوبة ولامقرة وعلوة” (الأمين:ب.ت ، ص 20).
فالافتراض السائد فى هذه الدراسات ليس فقط الافتراض بنشؤ الحركة من الشمال الى كافة انحاء هذا الفضاء، بل الافتراض بثبات بقية اجزاء هذا الفضاء.
“وقد عبدت الطريق امام هذه الافواج المعاهدة التى عقدها القائد عبد الله بن سعد ابى سرح والى مصر فى خلافة عثمان بن عفان مع ملك النوبة فليدرون سنة 31 هجرية، واتجهت افواج اخرى من اقاليم ليبيا وتونس عبر الصحراء الى ربوع كردفان وسهول دار فور”. ( الامين :ب.ت.ص 20،21).
الاعتقاد بثبوت المكان قاد الى الاعتقاد بثبوت فكرة الشعب السودانى الواحد فى الدولة الواحدة، هكذا بدأت باكراً باقلام النخب السودانية وصحائفهم تلك الازمة الوجودية لنشأة الدولة السودانية الحديثة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *