ايام من الحياة 4 عبدالسميع العمراني ليالي السمر في صحراء الصمت

عاد الينا بمعسكر الصحراء الامير الشاب وذلك في امسية نهاية الاسبوع (الخميس) وقد كان الجو حينها يلفه شتاء الصحاري مع لفحة هواء بارد منعش يندفع بعنف و لاتعترضه مصنوعات البشر أو شخوص الطبيعة.. ويظل شتاء الصحاري هو الأكثر برودة وتاثيزا في الكائنات .. وجميعنا يسمع بوضوح صوت الرياح والتي تعانق صمت الصحراء وهدوء ها الأبدي …ذلك الصمت الذي يحكي عن روعة وغموض صحراء العرب وهي ذاتها الصحراء التي طالما تغني وترنم فيها شعرا ولوعة وبكاء شجعان وفرسان الجزيرة العربية والذين كانوا يصرعون الفوارس ولكن صرعهم الحب فكان أن انتحبوا شعرا غزلا في المحبوبة وعتابا للصحراء ومنهم اشجع الشجعان عنترة بن شداد العبسي وجميل بثينة وقيس بن الملوح وكثر عبروا من هنالك فتركوا أثرا وتراثا غنيا للأجيال المتلاحقة ..
وكعادته كان الامير ياتي الي الصحراء بكامل اناقته وهندامه المتانق بالزي القومي الخليجي لانه يدرك جيدا ان مجرد دخوله الى مخيمه ستتقاطر بعض الوفود من اهالي البادية وبعض الاعيان من الاثرياء الذين نصبوا مخيمات مجاورة لاتقل تجهيزا وفخامة عن معسكر الأمير.
جاء الامير ويتبعه رتلا من سيارات الاصدقاء والعاملين في خدمته …استدارت العربات دورة كاملة حول المجلس الذي تتوسطه حفرة النار
وحفرة النار التي تتوسط المجلس هي مثل المدفاة ولكنها تجهز بعناية لتوضع بداخلها الاخشاب ( الحطب ) على ان تكون محاطة بالمفارش الفارسية الفخمة وفي العادة يختار لها المكان داخل المخيم بدقة لانها مكان الدفء من برد الشتاء القارص . وتتعالى من تلك المدفاة ..السنة اللهب تتعالي لتضفي على المجلس لونا احمرا أو ربما لونا خمريا وماهي الا لحظات فتبسط الدفء في الأرجاء ليحلو السمر في ليالي الصحاري .. و ذات المجلس هو مكان تناول الوجبات الساخنة وفي العادة يتم تناول الكبسة بلحم الحاشي اذ كان لدينا مجموعة طباخين من اليمن ومصر وبلدياتنا من السودانيين وبعد تناول الوجبات الساخنة تبدأ جلسات السمر وعلى ذكر السمر فاءن حاشية الامير تضم السمار من عازفي العود وضاربي الطبل فيترنمون بالاغاني البدوية واحيانا اغاني الخليج لعبدالله الرويشد و عبدالمجيد عبدالله وغيرهم وبعض الاغاني العربية.
ونحن كنا في خدمة الامير ووفده ولكن يظل السوداني معززا مكرما دائما ففي وقت كنا فيه نحن العمال بالقصر وبالمعسكر الا ان الامير كانت لديه مودة وعشق خاص مع السودانيين ويشهد الله انه كان يفضل الجلوس معنا والمزاج معنا وحتى بعض قضاياه وهمومه الخاصة يحكيها ويعكسها لنا للتشاور وكان الامير الشاب حين كنا داخل القصر الأميري لايمل من مجالسة السودانيين في المساكن المخصصة لنا داخل القصر ففي وقت الاستراحة النهارية وهي فترة نهاية الدوام الاولي مابعد الظهيرة اي القيلولة بالقصر وهي قد تمتد احيانا حتى الخامسة عصرا وهي كانت سانحة لنا لنتبادل الأخبار والترفيه وسرد الحكاوي
‏ وما ان تبدا فترة القيلولة الا ونرى الامير مقتحما مقر عمال القصر بحثا عن السودانيين رغم وجود آخرين من جنسيات أخرى من مصر و باكستان وكينيا والفلبين والهند ولكنه فقط يكتفي بالقاء التحية عليهم وياتي الينا نحن وعددنا يزيد عن العشرة يسال هذا ويمازح هذا ويطلب تدوير طاولة الورق ( الكوتشينة) للعب الوست أو (14)، ويظل الامير برفقنتا لساعتين أو ثلاث حتى يسمع صوت امه الاميرة تنادى عليه فيخبره المصري سواق الوانيت ( بوكس الخضار ) ا!
يخبره ان الست الاميرة طال عمرها بتندهلك فينتفض واقفا ويجري الى الخارج ، واميرة القصر وهي سيدة تقترب من منتصف العقد السادس من العمر بيد أنها سيدة محافظة ومسبطرة على الأوضاع الإدارية داخل القصر بشكل واضح وهي حريصة كذلك على المحافظة على السلوك القويم ومتابعة أولادها متابعة لصيقة واعتادت سيدة القصر على
القيام بجولة يومية لتفقد الأوضاع داخل القصر ونشعر نحن انها بالفعل الملكة والحاكمة داخل القصر .. وزوجها كان من كبار الأعيان وينتمي لطبقة الشيوخ والاميرة توليه اهتماما وكذلك الأبناء يضعون له مكانة بل يخشون غضبه خاصة في شأن متابعته وحرصه على أن يرافقوه لصلاة والأوضاع داخل القصر تبدو مرتبة وكل من بالداخل يعرف موقعه ودوره .
نعود الى مخيم الصحراء فحين جاء الينا الامير برفقة حاشيته سادت حالة من النشاط والضجيج داخل المخيم وتقاطرت مجموعات من ابناء الشيوخ ..جاءوا لالقاء التحية والسلام على الامير الشاب …اذن فإن مجلس الامير اصبح عامرا بعدد من الضيوف …وفي لحظة انشغالنا بضيوف الامير اذا بمجموعة كبيرة من الدراجات البخارية الضخمة وتعرف في الصحراء بالدباب الجامبو اقتحموا ساحة المخيم في منظر يذكرك ببعض لقطات افلام الغرب الامريكي …وحين كنا نشاهد بدهشة اذا بالحضرمي صديقنا يقترب منا ويهمس قائلا …ربك يستر هازول اصحابك يا سوداني ..عيال الشيوخ ..اكيد جو يشتكون للامير عن موضوعك …فضلت مع زميل لي سوداني آخر الانسحاب خلسة من محيط المجلس والدخول الى واحدة من غرف المخيم . نراقب من على البعد ما سيحدث ..وقد كلفنا زميلنا الحضرمي ان يخبرنا بفحوى الشكوى وما سيدور بين الشباب والامير …اذن هي اشبه بالمحاكمة في صحراء صامته
…انتظرنا طويلا داخل الخيمة الصغيرة حتى جاءنا الحضرمي واساريره متهللة ويكاد يقهقهة من الفرحة ونحن ننظر خارجا فاذا برتل الدراجات البخارية يغادر …وقال لنا …خلاص الموضوع انتهى ..العيال قالوا حديث طيب اعتذروا للامير انهم دخلوا عليه بدون موعد …قلنا له قول العكس قال لا يا شيخ هم اللي يعتذرون ..بس هم قصوا عليه المشكلة اللي بينك وبينهم بشكل مختلف …قالوا له انه عندك العامل السوداني اللي يشتغل معاك في المخيم كان مازح فلان وكان هايدهسه بس السوداني اعتذر رغم انه الرجال زعل كتير بس لما سالنا قالوا انه يشتغل معاك قلنا خلاص فرصة نجي نحييك ونسلم عليك .. ..وتحدثوا في مواضيع اخرى عن المخيمات والصحراء والصيد والسيارات وسرعة الدباب وغيرها وقال لنا هكذا ببساطة انتهى الامر ….
.قضى الامير ليلته معنا وبحسب وعدي لعسكري شرطة الطواري سلمته قصيدة المدح التي نالت رضاه وطلب مني إخطار صاحب القصيدة أن يحضر إليه في القصر ..واستمرت ليلة السمر في طوال ليلة الخميس الى الثلث الاخير من فجر الجمعة …فغادر موكب الامير الصحراء بعد قضاء ليلة من ليالي السمر الجميل ..
.
نواصل باذن الله

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *